كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بجواز ذبح هدي التمتع قبل يوم النحر، وغيره مما زعموه أدلة تركناه لوضوح سقوطه، ولأنه لا يحتاج في سقوطه، إلى دليل.
وأما الجمهور القائلون: بأنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران قبل يوم النحر فاستدلوا بأدلة واضحة، وأحاديث كثيرة صحيحة صريحة، في أن أول وقت نحر الهدي: هو يوم النحر، وكان صلى الله عليه وسلم قارنًا كما قدمنا، ما يدل على الجزم بذلك، سواء قلنا: إنّه بدأ إحرامه، قارنًا أو أدخل العمرة على الحج، وأن ذلك خاص به كما تقدم. وكانت أزواجه كلهن متمتعات كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة، إلا عائشة فإنها كانت قارنة على التحقيق كما قدمنا إيضاحه بالأدلة الصحيحة الصريحة، ولم ينحر عن نفسه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أزواجه، إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة، وكذلك كل من كان معه من المتمتعين، وهم أكثر أصحابه والقارنين الذين ساقوا الهدي، لم ينحر أحد منهم ألبتة، قبل يوم النحر، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الراشدين، والمهاجرين، والأنصار، وعامة المسلمين فلم يثبت عن أحد من الصحابة، ولا من الخلفاء: أنه نحر هدي تمتعه، أو قرأنه قبل يوم النحر البتة.
فإن قيل: فعله صلى الله عليه وسلم لا يتعين به الوجوب، لإمكان أن يكون سنة لا فرضًا، لأن الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيًّا، فلا عموم له، ولذلك كانت أفعال هيئات صلاة الخوف كلها جائزة، ولم ينسخ الأخير منها الأول، وإذا فلا مانع من أن يكون هو ذبح يوم النحرن مع جواز الذبح قبله.
فالجواب من وجهين، الأول: هو ما تقرر في الأصول، من أن فعله صلى الله عليه وسلم، إذا كان بيانًا لنص فهو محمول على الوجوب، إن كان الفعل المبين واجبًا كما أطبق عليه الأصوليون. وقد قدمنا إيضاحه فقطعه السارق من الكوع مبينًا به المراد من اليد في قوله: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] يقتضي الوجوب، فلا يجوز لأحد القطع من غير الكوع، وأفعاله في جميع مناسك الحج مبينة للآيات الدالة على الحج، ومن ذلك الذبائح، وأوقاتها لأنها من جملة المناسك المذكورة في القرآن المبينة بالسنة. ولذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لتأخذوا عني مناسككم».
وإذًا يجب الاقتداء به في فعله في نوعه وزمانه، ومكانه ما لم يكن هنالك قول منه أعم من الفعل كبيانه أن عرفة كلها موقف، وأن مزدلفة كلها موقف، وأن منى كلها منحر، ونحو ذلك، فلا يختص الحكم بنفس محل موقفه أو نحره.
قال صاحب جمع الجوامع عاطفًا على ما تعرف به جهة فعله صلى الله عليه وسلم من وجوب أو ندب ما نصه: ووقوعه بيانًا إلخ. يعني: أن وقوع الفعل بيانًا لنص مجمل إن كان مدلول النص واجبًا، فالفعل المبين به ذلك النص واجب بلا خلاف، وإن كان مندوبًا فمندوب. سواء كان الفعل المبين النص، دل على كونه بيانًا قرينة أو قول.
قال شارحه صاحب الضياء اللامع ما نصه: الثاني: أن يكون فعله بيانًا لمجمل إما بقرينة حال مثل القطع من الكوع، فإنه بيان لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وإما بقول مثل قوله «صلوا كما رأيتموني أصلي» فإن الصلاة فرضت على الجملة، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله، وأخبر بقوله أن ذلك الفعل بيان، وكذا قوله «خذوا عني مناسككم» وحكم هذا القسم وجوب الاتباع. اهـ. محل الغرض منه، وهو واضح فيما ذكرنا ولا أعلم فيه خلافًا فجيمع أفعال الحج، والصلاة التي بين بها صلى الله عليه وسلم آيات الصلاة والحج يجب حمل كل شيء منها، على الوجوب إلا ما أخرجه دليل خاص يجب الرجوع إليه. وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: مسألة فعله صلى الله عليه وسلم، ما وضح فيه أمر الجبلة، كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، أو تخصيصه، كالضحى، والوتر، والتهجد، والمشاورة، والتخيير، والوصال والزيادة على أربع فواضح، وما سواهما إن وضح أنه بيان بقول أو قرينة مثل: صلوا، وخذوا، وكالقطع من الكوع والغسل إلى المرافق، اعتبر اتفاقًا انتهى محل الغرض منه. ومعنى قوله: اعتبر اتفاقًا: أنه إن كان المبين باسم المفعول واجبًا، فالفعل المبين باسم الفاعل واجب، لأن المبين بحسب المبين وقال شارحه العضد: فإن عرف أنه بيان لنص على جهته من الوجوب، والندب، والإباحة اعتبر على جهة المبين من كونه خاصًا وعامًا اتفاقًا، ومعرفة كونه بيانًا إما بقول، وإما بقرينة، فالقول نحو «خذوا عني مناسككم» «وصلوا كما رأيتموني أصلي» والقرينة مثل: أن يقع الفعل، بعد إجمال، كقطع يد السارق من الكوع، دون المرفق، بإدخال المرافق، أو إخراجها بعد ما نزلت {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] والغسل إلى المرافق، بإدخال المرافق، أو إخراجها بعد ما نزلت {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} [المائدة: 6]. اهـ. محل الغرض منه، وهو واضح فيما ذكرنا من أن الفعل المبين لنص دال على واجب، يكون واجبًا لأن البيان به بيان لواجب، كما هو واضح. وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله:
من غير تخصيص وبالنص يرى ** وبالبيان وامتثال ظهرا

ومحل الشاهد منه قوله: وبالبيان وقال في شرحه نشر البنود في معنى قوله والبيان، فيكون حكمه حكم المبين. اهـ. منه، وهو واضح، والمبين بصيغة اسم المفعول في آيات الحج، وهدي التمتع واجب، لأن الحج واجب إجماعًا، وهدي التمتع واجب إجماعًا، فالفعل المبين لهما يكون واجبًا على ما قررناه، وعليه عامة أهل الأصول، إلا ما أخرجه دليل خاص وبه تعلم أن ذبحه صلى الله عليه وسلم هديه يوم النحر، وهو قارن وذبحه عن أزواجه يوم النحر، وهن متمتعات، وعن عائشة وهي قارنة: فعل مبين لنص واجب، فهو واجاب، ولا تجوز مخالفته في نوع الفعل، ولا في زمانه، ولا في مكانه إلا فيما أخرجه دليل خاص، كغير المكان الذي ذبح فيه من منى، لأنه بين أن منى كلها منحر، ولم يبين أن الزمن كله وقت نحر، ومما يؤيد ذلك ما اختاره بعض أهل الأصول، من أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن بيانًا لمجمل، ولم يعلم هل فعله على سبيل الوجوب، أو على سبيل الندب أنه يحمل على الوجوب، لأنه أحوط وأبعد من لحوق الإثم، إذ على احتمال الندب، والإباحة لا يقتضي ترك الفعل إثمًا، وعلى احتمال الوجوب يقتضي الترك الإثم، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في مبحث أفعاله صلى الله عليه وسلم مجهول الصفة: أي مجهول الحكم، فإنه يحمل على الوجوب إلى أن قال: وكونه للوجوب هو الأصح، وهو الذي ذهب إليه الإمام مالك، والأبهري وابن القصار وبعض الشافعية، وأكثر أصحابنا وبعض الحنفية، وبعض الحنابلة. اهـ. محل الغرض منه.
وقال صاحب الضياء اللامع: وبهذا قال مالك في رواية أبي الفرج، وابن خويز منداد وقال به الأبهري، وابن القصار، وأكثر أصحابنا، وبعض الشافعية، وبعض الحنفية، وبعض الحنابلة، وبعض المعتزلة. واستدل أهل هذا القول بأدلة.
منها قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} [الأحزاب: 21] قالوا: معناه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فله فيه أسوه أسوة حسنة، ويستلزم أن من ليس له فيه أسوة حسنة، فهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وملزوم الحرام حرام ولازم الواجب واجب. وقالوا أيضًا: وهو مبالغة في التهديد، على عدم الأسوة فتكون الأسورة واجبة، ولا شك أن من الأسوة اتباعه في أفعاله.
ومنها: قوله تعالى: {وما آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وما نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] قالوا: وما فعله فقد آتان. اهـ. لأنه هو المشرع لنا بأقواله وأفعاله. وتقريره.
ومنها: قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31] الآية. ومن اتباعه التأسي به في فعله، قالوا: وصيغة الأمر في قوله: {فاتبعوني} للوجوب.
ومنها: أن الصحابة لما اختلفوا، في وجوب الغسل من الوطء، بدون إنزال سألوا عائشة، فأخبرتهم أنها هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا ذلك، فاغتسلا فحملوا ذلك الفعل الذي هو الغسل، من الوطء، بدون إنزال على الوجوب.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في الصلاة، خلعوا نعالهم، فلما سألهم: لم خلعوا نعالهم؟ قالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا، فحملوا مطلق فعله على الوجوب، فخلعوا لما خلع، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك قالوا: فلو كان الفعل الذي لم يعلم حكمه لا يدل على الوجوب، لبين لهم أنه لا يلزم من خلعه، أن يخلعوا، ولَكِنه أقرهم على خلع نعالهم، وأخبرهم أن جبريل أخبره: أَن في باطنهما قذرًا والقصة في ذلك ثابتة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عند أحمد، وأبي داود، والحاكم وغيرهم. وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: رواه أبو داود بإسناد صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك. قوال: هو صحيح على شرط مسلم، وقال الشوكاني في نيل الأوطار في شرحه لحديث أبي سعيد المذكور في المنتقى بعد أن قال المجد في المنتقى: رواه أحمد وأبو داود. اهـ. الحديث: أخرجه أيضًا الحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان واختلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم في العلل الموصول، ورواه الحاكم من حديث أنس، وابن مسعود إلى آخر كلامه. ومعلوم أن المخالفين القائلين: بأن الفعل الذي لم يكن بيانًا لمجمل، ولم يعلم حكمه من وجوب لا يحمل على الوجوب، بل على الندب، أو الإباحة إلى آخر أقوالهم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا مناقشة معروفة في الأصول قالوا قوله: {وما آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] أي ما أمركم به بدليل قوله: {وما نَهَاكُمْ عَنْهُ} [الحشر: 7] فهي في الأمر، والنهي لا في مطلق الفعل، ولا يخفى أن تخصيص: وما آتاكم، بالأمر تخصيص لا دليل عليه، وذكر النهي بعده لا يعينه وقالوا {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني} [آل عمران: 31] إنما يكون الاتباع واجبًا فيما علم أنه واجب، أما إذا كان فعله مندوبًا فالاتباع فيه مندوب، ولا يتعين أن الفعل واجب، على الأمة بالاتباع إلا إذا علم أنه صلى الله عليه وسلم، فعله على سبيل الوجوب. أما لو كان فعله على سبيل الندب وفعلته الأمة على سبيل الوجوب، فلم يتحقق الاتباع بذلك قالوا: وكذلك يقال في قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] الآية فلا تتحقق الأسوة، إذا كان هو صلى الله عليه وسلم فعله، على سبيل الندب، وفعلته أمته على سبيل الوجوب، بل لابد في الأسوة من علم جهة الفعل، الذي فيه التأسي قالوا: وخلعهم نعالهم لا دليل فيه، لأنه فعل داخل في نفس الصلاة: وإنما أخذوه من قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» لأن خلع النعال كأنه في ذلك الوقت من هيئة أفعال الصلاة، قالوا: وإنما أخذوا وجوب الغسل من الفعل، الذي أخبرتهم به عائشة، لأنه صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل من التقاء الختانين، أو لأنه فعل مبين لقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فاطهروا} [المائدة: 6] والفعل المبين لإحمال النص، لا خلاف فيه كما تقدم إيضاحه. قالوا: والاحتياط في مثل هذا: لا يلزم، لأن الاحتياط لا يلزم إلا فيما ثبت وجوبه أو كان وجوبه، هو الأصل كليلة الثلاثين من رمضان، إن حصل غيم يمنع رؤية الهلال عادة أما غير ذلك، فلا يلزم فيه الاحتياط، كما لو حصل الغيم المانع من رؤية هلال رمضان ليلة ثلاثين من شعبان: فلا يجوز صوم يوم الشك، ولا يحتاط فيه، لأنه لم يثبت له وجوب ولم يكن وجوبه هو الأصل إلى آخر أدلتهم ومناقشتها. فلم نطل بجميعها الكلام، ولاشك: أن الأدلة التي ذكرها الفريق الأول كقوله: {فاتبعوني} [آل عمران: 31] وقوله: {وما آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] الآية وقوله: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] الآية وإن لم تكن مقنعة بنفسها في الموضوع، فلا تقل عن أن تكون عاضدة لما قدمنا من وجوب الفعل الواقع به البيان، وما سنذكره من غير ذلك وهو الوجه الثاني من وجهي الجواب اللذين ذكرنا: وهو أن ذلك الفعل الذي هو ذبح هدي التمتع، والقران يوم النحر، هو الذي مشى عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. ودلت عليه الأحاديث ولن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها، ومن أوضح الأدلة الثابتة في ذلك الأحاديث المتفق عليها التي لا مطعن فيها بوجه أنه صلى الله عليه وسلم، أمر أصحابه بفسخ حجهم في عمرة، وأن يحلوا منها الحل كله، ثم يحرموا بالحج، وتأسف على أنه لم يفعل مثل فعلهم وقال «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» وفي تلك النصوص الصحيحة: التصريح بأمرهم بفسخ الحج في العمرة ومعناه: أنه هو صلى الله عليه وسلم، يجوز له أن يفسخ الحج في العمرة، كما أمر أصحابه بذلك. وقد صرح في الأحاديث الصحيحة، بأن الذي منعه من ذلك. أنه ساق الهدي، فلو كان هدي التمتع يجوز ذبحه بعد الإحلال من العمرة لجعل الحج عمرة، وأحل منها، ونحر الهدي بعد الإحلال منها. ولَكِن المانع الذي منع من ذلك هو عدم جواز النحر في ذلك الوقت. والحلق الذي لا يصح الإحلال دونه، معلق على بلوغ الهدي محله كما قال: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقد بين صلى الله عليه وسلم بفعله الثابت عنه أن محله: منى يوم النحر. وقد قدمنا في سورة البقرة: أن القران دل في موضعين، على أن النحر قبل الحلق.
أحدهما: قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ}.
والثاني: قوله تعالى: {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُوماتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} وقد قدمنا أنه التسمية عند نحرها تقربًا لله، ثم قال بعد النحر الذي هو معنى الآية: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] ومن قضاء تفثهم: الحلق، أو التقصير. وقد ثبت في الصحيح: «أنه صلى الله عليه وسلم حلق قبل أن ينحر وأمر بذلك» كما قدمناه في سورة البقرة مستوفى، ولَكِنه صلى الله عليه وسلم بين أن من قدم الحلق، على النحر: لا شيء عليه. ولا خلاف أن كل الواقع من ذلك في حجته، أنه كان يوم النحر كما هو معروف. وقد دلت آية الحج على أن كل هدي له تعلق بالحج، ويدخل فيه التمتع دخولًا أوليًّا أن وقت ذبحه مخصص بأيام معلومات، دون غيرها من الأيام، وذلك في قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالًا وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُوماتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} لأن معنى الآية الكريمة: أذن فيهم بالحج، يأتوك مشاة، وركبانًا لأجل أن يشهدوا منافع لهم، ولأجل أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: أي ولأجل أن يتقربوا بدماء الأنعام في خصوص تلك الأيام المعلومات وهو واضح كما ترى. وقد قدمنا أن هذه الأنعام التي يتقرب بها في هذه الأيم المعلومات، ويسمى عليها الله عند تذكيتها، أنها أظهر في الهدايا من الضحايا، لأن الضحايا لا تحتاج أن يؤذن فيها للمضحين، ليأتوا رجالًا وركبانًا، ويذبحوا ضحاياهم كما ترى، والأحاديث الصحيحة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا ونحر هديه يوم النحر، وأنه ما منعه من فسخ الحج في العمرة إلا سوق الهدي، وأن الهدي لو كان يجوز ذبحه بعد الإحلال من العمرة، لأحل بعمرة، وذبح هدي التمتع عند الإحلال منها، أو عند الإحرام بالحج كما يقول من ذكرنا: أنه جائز، وقد قدمنا كثيرًا منها موضحًا بأسانيده، وسنعيد طرفًا منه هنا إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك حديث حفصة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم المتفق عليه قال البخاري في صحيحه: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع عن ابن عمر عن حفصة رضي الله عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم أنا قالت «يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تتحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحره». اهـ. من صحيح البخاري، وقوله: حتى أنحر يعني يوم النحر، فلو جاز نحر هدي التمتع قبل ذلك، لأحل بعمرة، ونحر.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن حفصة رضي الله عنهم، زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم قالت «يا رسول الله ما شأن الناس حلوا، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» وفي لفظ له عنها قالت قال «إني قلدت هديي فلا أحل حتى أحل من الحج» وفي لفظ لها عنها «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، قالت حفصة: قلت ما يمنعك أن تحل؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر هديي». اهـ.